عادل كامل
 

[1]  تعدد الأفكار، والآراء، والفرضيات، والنظريات في نشأة (الآثار ـ بصفتها علامات) المبكرة، كأدوات الصيد، وألا واني الفخارية، والتصوير فوق حيطان المغارات، والمجسمات ثلاثية الأبعاد، وكل ما سيتضمن مهارات استثنائية لا في الصياغة، بل في الخصوصية الفنية/ الرمزية/ والجمالية، أغناء لوحدة النص وبنائيته التركيبية. وأيا  كانت الدوافع هذه، فإنها لم تكن منعزلة عن نظام (سستم) المجموعات التي تشكلت غريزيا  أو تضامنيا  في الحفاظ على تماسكها البنيوي.  ففي تلك العصور السحيقة، داخل المغارات أو الوحدات السكنية البدائية، تبلورت صلات أسهمت بصياغة أنظمتها في العمل والاتصال. وهي التي منحت مفهوم (الجماعة) عوامل نشوء الأبجديات. فهي لم تكن لتحقق المتطلبات العملية فحسب، بل أصبحت علامة حوار، وربما، علامة ترف! هذا إذا كانت ثمة غاية [ما] أدركها إنسان ما قبل التاريخ غير الديمومة، ومستلزماتها، إذ  لم تكن ثمة (ميتافيزيقا) محتملة عدا ما سيضمره السحر من اداءات غير متوقعة، أو فائقة.

 ما علاقة السحر بالكتابة (الخط)، وبالخط فوق سطوح الأواني، والشواخص فيما بعد، إن لم تكن ذات صلة بمكونات وعيه، وانشغاله غير الواعي في الحفاظ على ملكيته ـ وتاريخه، من الزوال؟

 إن المجاميع (الفنية) التي خلقتها تلك المجموعات السكانية، في بلاد ما بين النهرين، منذ الآلف الثامن، سمحت للتركيب أن يكون أداة منهجية في صياغة أبجدياتها: أفكارها، وأساليبها معا .  فالأواني لم تحافظ على نشوء أقدم علم، وهو علم (الايكولوجيا) فحسب، بل صاغت منهجا  بنائيا  للعلاقات الاجتماعية (العمل/ العادات/ الأفكار)، فكانت الرسومات التشخيصية، والتجريدية، والأشكال الهندسية، والحروف المتصلة، أو المتفرقة كإشارات أو رموز .. تصّور الترابط العضوي للجماعة في بلورة المهارات الحرفية للأفراد. فالصانع الأمهر، ليس محض أداة في بنية المجموعة، أو لسان حالها، إلا بصفته سيؤدي دورا  شبيها بدور رئيس المجموعة، أو الساحر .. وهل يمكن دحض فكرة أن هؤلاء الصناع/ السحرة/ الرسامين/ الفخاريين/ النحاتين/ وصانعي الأدوات، ليسوا هم في الطليعة؟

 رعد الدليمي، المتعدد الاختصاصات، في الرسم، وفي الخط العربي، والتصميم، وفي زخرفة المصاحف بالذهب الخالص، يوظف في نصوصه الخزفية، خبرته التصميمية إلى ما هو: جمالي، كخلاصة لموروث بنائي بين الخزف والكتابة، ليس الخاص بالشرق، أو بالعالم الإسلامي، بل يرجعنا إلى مسلات وجرار واوان نذرية استخدم فيها التركيب كبنية متكاملة الأجزاء. على أن الدليمي، يكرس الرسم والحرف العربي في الخزف، لمنح البعد الجمالي، احد أسرار استحالة نقضه أو دحضه، أو العثور له على بدائل. فالجمالي يذهب ابعد من (الجميل)، صلة بأهداف يراها الفنان مناسبة تتوازن فيها الموروثات بالمعالجات المعاصرة. فإذا تم استبعاد أي اثر للوظيفي، فان البعد الجمالي ـ حد البذخ ـ سيشكل مركزا لوحدة الأجناس الفنية في تشكيل نصوصه الخزفية: جمال لا يسمح إلا بتخيل رؤية  عالم خال ٍ من الاضطراب، والغبار، وأكثر صلة بعالم لا يُرى إلا عبر المستحيلات، أو في الأحلام.

[2] قبل أن تأخذ دعوة الانطباعيين تأثيرها، في مغادرة المحترفات، والرسم في الهواء الطلق، كان الفن جزءا  من المعمار، والحياة. وفي الحضارات الشرقية القديمة، ومنها حضارة وادي النيل، ووادي الرافدين، وما بينهما، لم يكن الفن منفصلا  منفصلا  عن المعتقد، ولا عن الحياة اليومية. ومنذ أصبحت الكتابة عنصرا  مكونا  للخطاب المعرفي، فان النهج البنائي، سمح لديالكتيك الفنون، بالتداخل حد تشكيل أجناس تتسم بالتحديث، والابتكار. فلم تعد ثمة مخطوطة خالية من الرسوم، والأشكال الهندسية، والمعادلات الحسابية، الأحاجي، والطرائف، والحكم، فضلا  عن لحقول العلمية كالكيمياء والطب والسحر. على أن دخول الكتابة في الأجناس الفنية، كالنحت، والخزف، ليست وظيفية فقط، إنما لديها اشتغالات جعلت مفهوم الكتابة سمة للخطاب في وحدته بين الفئات الاجتماعية.  واستخدام الحرف في الخزف لا يرجع إلى عصر ازدهار الخط والزخرفة العربية الإسلامية، أو ازدهار عصر الخزف نفسه، بل ترجع هذه (الصلة) إلى جذور بالغة القدم. فقد تركت الحقب الحضارية في العراق (نماذج ) مميزة أدت، بظهور الإسلام، إلى تبلور رؤية تكاملت فيها الفلسفة والعلوم والمهارات الفنية إلى جانب المعتقد الديني. فالتجريد الهندسي، بحد ذاته، لم يعد لغة للنخبة، بل خطابا ً شمل الحياة في مظاهرها الواقعية والفكرية والروحية.

 الدليمي، الخطاط في الأصل، والمصمم، والمزخرف، والخزاف، ومع ظهور تجارب في  الخزف العراقي الحديث، سمحت له أن يشرك هذه العناصر في صياغة نماذجه التركيبية باندماجها وتداخلها كأجزاء ستشكل بنية مستقلة تسمح لكل عنصر أن يكمل الآخر، وفي الوقت ذاته، أن يجعل من النص المركب نصا  موحدا  ومستقلا  يتوخى التعبير الجمالي، كغاية لا يمكن فصلها عن الرسالة (الروحية) باستثمار الخامات والعناصر ـ مع انه يعمل محترفا  وصمما  بامتلاكه تصورات محددة وقصدية ـ كالساحر في قلب التراب إلى ذهب، إنما في دفع الفن نحو ذروته: الجمال المقترن بتساميه، بمعالجة هندسية، تجريدية، قادت إلى بناء علامات تؤكد هويتها، في الأشكال، إلى جانب ما يتوخاه الفنان منها.

 فالشكل الخزفي، كمعمار مصغّر، يؤكد هويته بما يتضمنه من تحد ٍ لمظاهر الاغتراب، وفي الوقت نفسه، لسيادة النماذج ذات الطابع السلعي، المنتجة بكميات كبيرة، ليس مهمتها الندرة، والتفرد، أو ما يتضمنه الفن من ارتقاء بالرهافة والتذوق، بل لأغراض الانتشار والسوق. رعد الدليمي، يجعل النادر، الثمين، والجمالي، غاية للفن، وليس وسيلة. فالوسائل عنده ـ بحد ذاتها ـ الغاية في التداول، وقيد المشاهدة، كضرب من تقاليد ترجع أصولها إلى مكونات المعابد، وبيوت الحكمة، والقصور الثقافية، لأن الفن الحديث، بما يمتلكه من استذكار، يعيد للمخيال صلة بين الأرض ـ والمطلق، وبين النص والمتلقي، لجعل الغاية ابعد من أن تكون وسيلة، للاستخدام ـ الاندثار. هذا  الهاجس سمح له كخطاط أن يجعل من خامة الطين، مصغّرات معمارية،  كهيئات خزفية، مستمدة م الطبيعة، والموروثات، بجعلها علامات تمتلك ما هو أكثر من مهارة، بجعل النادر، الباذخ في جمالياته، نصا  تتجمع فيه (الأزمنة) ومغايرا ً للتيارات الأقل إحساسا  بالنشوة الروحية، وما تسعى إليه الفنون من ذرى، لا علاقة لها بعمل السوق ـ الاستهلاك، وإنما بضرب من الرمزية، هي جزء من جذور شكلت تراث الشرق ـ قديما ً ـ وقد راحت تتمثل ومضاتها برؤية حديثة، ومعاصرة.

[3] الرسم ـ والحروف

اشتغل التفكير (الرمزي) بمنح (الصور/ الأشكال/ الألوان ..الخ) صلة باليات عمل اللاوعي، مما سمح لهذا الانشغال العمل بالشفرات. فالخزين الكامن في الكتابة، يذهب ابعد من التداول، والاستهلاك، في غاياته الرمزية. ورعد الدليمي، كخطاط ومزخرف ورسام ومصمم وخزاف ميز بين معالجاته بين: التصوير، والكتابة، والأشكال المتوفرة في الطبيعة، أو في النصوص السابقة، وبين معالجتها في النص الحديث.

ـ في المجال الأول، مثلت الألوان وظائفها ذات الصلة بوجودها في لطبيعة، كوجود الحروف والكلمات في أبجدية لها نظامها التام في العمل، عن المجال الثاني في إعادة استخدام الألوان، والحروف، والأشكال، بما سعى إليه الفنان.

ـ فالمسافة بين  (الحر/ التلقائي/ غير الممسوس) وبين دخوله في العملية الفنية، منح (التحديث/ وصولا  إلى الحداثة ـ تعقيدات في التركيب والبناء لغايات لا واعية، كامنة في مجموع العناصر، ولكنها تعمل بأهداف محددة.

ـ والمسافة بين الحروف في اللغة، والكتابة برمتها، تتسع وتضيق بينهما عندما تشترك، مع عناصر أخرى، كالألوان، والحجوم، والملامس، في النص الحديث.  فالطبيعة، والواقع، والموروث، يمثل خزينا تتم صياغته بطرق تخضع للمعرفة/ والخبرة/ والمهارة/ في المجال الرمزي/ والجمالي.

 ومنذ استلهم الفنان التشكيلي الحرف العربي، منذ تجارب مديحة عمر وشاكر حسن وجميل حمودي، تنوعت الأهداف، والأبعاد،  والمعالجات. فقد توخت، في دراسة السطوح، والعلاقات، المجال التشكيلي المحض: جمالياته، وطاقاته التعبيرية. ففي المجال الرمزي كان للحرف صلة بما تمثله اللغة العربية، كلغة معتقد، أبعادا ً ميتافيزيقية.  والفنان رعد الدليمي، في خزفياته، سيستثمر الرسم، كصور مستمدة من الطبيعة، مثلما استخدم الحرف لغايات لم تغادر/ في لا وعيه، الجمال كذروة تقع على النقيض من التشوهات والخدوش والإساءات التي حدثت ـ باسم التحديث والحداثة ـ للحرف العربي، وأنظمته. على أن رعد الدليمي، يذكرنا بفن (الاربسك)، في أشكاله المتوارثة، بعد أن ترك للرسم، أن يندمج ويتفاعل ويتوحد ويتشكل مع الكتابة، لغاية جمالية دفع بها نحو رمزيتها وما تمثله وحدة العناصر من أهداف روحية. فإذا  كانت هناك تجربة للفنان د. إياد الحسيني، دمج فيها الخط بالنحت، بمعالجات معمارية، سمحت لتوجهه التصميمي من العناية بالبنائية، كمنهج عمل أو طريقة، تحت تأثيرات التحديث، والحداثة، فان رعد الدليي، سيمنح (التزويق) و (التذهيب) و (البذخ) حدا  يتناسب وتقنيات التزجيج، في منح (الجمال) بعدا  تصحيحيا  للتشويهات التي انتشرت تحت تأثيرات تيارات المدارس الأوروبية، معالجاته تستند إلى قواعد صارمة، في ضبط الخطوط، وتنظيمها، وتركيبها، لأهداف نراها متمثلة في سطوح العمائر الدينية، وما تحدثه من انتقال من السطح إلى الأعماق، لغايات محددة، كالتأويل الرمزي نحو الذات الإلهية، بصفتها خالصة الجمال،  يجوز مسها بمعالجات مضطربة، أو بدمج البشري (المحدود) بما هو خارج نطاق الإدراك، الأمر الذي منح هوية الفن الإسلامي، رمزيته، في أهدافه الجمالية أو الروحية، أو بطرق استثماره للتجريد في العمليات البنائية.

في هذا المنحى، يكف المعنى، ـ عدا انه كامن في النص ـ إلا أن يشكل جدلية رمزية صاغها الفنان باستثمار: طاقات الحرف العربي، وخزينه اللاشعوري، ومخفياته، مع ما يمثله الرسم من أهداف مغايرة للهدم والتفكيك، أو بصفته يعمل بتشفيرات أن الموجودات وجدت لغايات تتجاوز المعاني السائدة، ومنها ما هو عصي على الإدراك، للمضي في بناء لغز النص، بتنصيصاته، أو بصفته تشذيبا ، ونقضا  لحالات الفصام التي هي حاصل تصادمات الأنظمة البشرية، ضمن ظاهرة (القبح) كذريعة انتقاديه ورمزية للقهر والاغتراب، متوخيا  تطهير النص، إن جاز القول، من الارتباك، والانشغال بالاستهلاك، أو التتابع المباشر، نحو انفتاح يدفع بالمعالجة البنائية لـ (جماليات ـ البذخ ـ اشتغالا - سحريا ـ  ومشفرا) لأسلوب الفنان، ورؤيته الفنية، وتقنياته الحرفية، إنما للظفر بمنح الفن الشرقي،  في عهود ازدهاره أو تدهوره، هوية صاغتها التأملات، والنسج الدائم للاشعور السحيق، الجمعي والفردي، بجعل الفن يتوخى الانتقال من المباشر، عبر التجريد، والأشكال الهندسية، نحو ما هو لا محدود، أو صاف  كالمطلق.

سيرة

 

رجوع

 

Home       About       Gallery       Photos       Critics       Contact